لماذا صمت رمضان هذا العام

وبينما ينطلق صوت الأذان من هاتف أمي، أجتمع معها ومع والدي على طاولة العشاء. أهمس لنفسي ببسملة سريعة قبل أن أتناول أول رشفة من الماء منذ الساعة السادسة صباحًا، ثم أتناول تمرًا مجدولًا. ثم نبدأ إفطارنا بطبقنا المعتاد: حساء الطماطم مع الفريكة إلى جانب السمبوسة، وهي فطائر لحم مقلية مقرمشة محشوة بلحم البقر المفروم المتبل بالقرفة. هذه ليست سوى بعض الوصفات التي احتفظت بها عائلتي حصريًا لشهر رمضان منذ أن كنت طفلة.

ورغم أن هذا الشهر الفضيل وأطعمةه مألوفة بالنسبة لي، إلا أنني لم أشعر منذ فترة طويلة بالجوع والعطش والراحة بعد صيام كل يوم. وذلك لأنني لم أصم منذ عام 2020 قبل هذا العام. وما أعادني إلى رمضان هذا العام هو أيضًا أول ما شغل ذهني كل ليلة خلال الشهر الماضي عندما كنت على وشك تناول أول قضمة: غزة وشعبها.

عندما كنت صغيراً، كنت أشعر دوماً أن شهر رمضان يمثل التزاماً أكثر منه ممارسة مبهجة، وخاصة أنني لم أجد نفسي منجذباً قط إلى المجتمع الإسلامي في منطقتي. وعدم وجود أي أصدقاء يمارسون نفس ديانتي جعلني أشعر وكأنني منبوذ بين دائرتي الاجتماعية، وتركني مع شعور عميق بعدم الأمان بشأن إيماني وثقافتي.

الجانب الوحيد في ثقافتي الذي لم يجلب لي الخجل هو الأطعمة التي نشأت عليها. كنت أستمتع بتربيتي في منزل مليء بالنكهات، حيث كانت الوجبات المطبوخة في المنزل أمرًا طبيعيًا، كما كان التجمع لتناول العشاء كعائلة. تناول قضمة من البيتزا الفردية التي تُغطى باللحم البقري المتبل بالزبادي، أو تناول القليل من لحم الخنزير المقدد، كان أمرًا ممتعًا.كان تناول الخبز العربي بعد يوم طويل من الصيام يريحني عندما كنت أشعر بعدم الارتياح بسبب جوانب من شخصيتي تختلف عن الآخرين. لا أستطيع أن أتذكر يومًا لم أعود فيه إلى المنزل من المدرسة وأفتح الباب الأمامي لأشم رائحة التوابل الدافئة التي تملأ الهواء، وأواني الطهي تصطدم ببعضها البعض، وأمي تعمل بجد للحصول على وجبة طازجة على المائدة للعشاء، وخاصة خلال شهر رمضان؛ إن تركيزها على الطهي وإطعام الأسرة هو أحد الطرق التي عبرت بها دائمًا عن حبها لنا.

على الرغم من حبي الشديد للطعام الذي تناولناه خلال شهر رمضان، إلا أنني لم أكن مقتنعًا بأهمية الصيام، وكنت أشتكي بانتظام في سنوات مراهقتي وشبابي. وكانت أمي تجيبني دائمًا: "يجب أن يأتي الصيام من قلبك وروحك. إذا لم تكن منخرطًا فيه تمامًا، ولم تكن ملتزمًا به تمامًا، فلن يكون لصيامك أي معنى".

لقد واصلت صراعي مع المطلب الديني، وكثيراً ما كنت أراه أكثر إزعاجاً وغير قادر على التواصل مع المعنى الأعمق للشهر الكريم. لذا في النهاية أخذت رسالتها على محمل الجد وتوقفت عن الاحتفال بالعيد. وعلى الرغم من شعوري بارتباط قوي بثقافتي وديني كشخص بالغ، إلا أنني لم أشعر بأنني مضطر إلى الصيام. كان الخيار الوحيد الذي بدا منطقياً بالنسبة لي هو الانسحاب تماماً.

ولكن هذا العام مختلف. فمنذ بدأت الهجمات على غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وجدت نفسي أتطلع إلى إيماني أكثر فأكثر. وكنت في حالة شبه دائمة من الخوف والعجز وأنا أشاهد الأخبار وأعرف عن مقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء. وعندما أصبح من الواضح منذ وقت مبكر أن هذا لن ينتهي في أي وقت قريب، بدأت أفكر في شهر رمضان. فكيف سيتصرف أهل غزة خلال الشهر الفضيل في ظل هذه الظروف؟ وللمرة الأولى، شعرت بشيء داخلي لم أشعر به من قبل: التزام عميق بالمشاركة في الصيام. ولعلني من خلال الصيام أستطيع أن أشعر بالارتباط بشعبي خلال وقت من الدمار الشامل. وربما يساعدني إعادة الاتصال بإيماني بهذه الطريقة على الشعور بالأمل عندما ضاع الأمل تقريباً.

لقد بذلت قصارى جهدي لأغمر نفسي بروح رمضان هذا العام، حيث كنت أهتم بوالدتي الفلسطينية وهي تعد وجبات ما قبل وبعد الصيام للسحور والإفطار. كانت كل يوم تجمع المكونات البسيطة التي يستخدمها الفلسطينيون منذ قرون ــ الخيار والطماطم والبقدونس والحمص، وبالطبع الزيتون وزيته ــ لصنع وصفات تقليدية مثل(سلطة المزارع) والحمص. كل ليلة تقريبًا، كنت أساعدها في فرد العجين لصنع السمبوسة وحشوها باللحم قبل أن يقليها والدي. كنت أحوم بالقرب منها، وأدون ملاحظاتي حول كيفية تحضيرها لأطباق مثل السماق الثقيل، واحدة من المفضلة لدي شخصيًا، والقطايف الحلوة، فطائر السميد المطوية والمحشوة بالكريمة أو المكسرات، المقلية، والمغموسة في شراب بسيط.

وعلى طول الطريق، شعرت بشيء مختلف فيها مقارنة بكل المرات التي شاهدتها فيها في المطبخ من قبل. فقد بدا واجبها في الطهي لعائلتها أشد، وتعزز بمعرفة أن العديد من الأمهات في غزة لم يعد يتمتعن بنفس الامتياز. كما اكتسب طهي هذه الوصفات التي هي قريبة جدًا من قلبها ونقلها إلي بُعدًا جديدًا - محاولة متحدية للحفاظ على ثقافتها حية بينما يحاول آخرون محوها.

لقد تغير رمضان هذا العام بطريقة مهمة أخرى. ففي كل السنوات السابقة، كانت وجبات الإفطار التي نتناولها في الصباح خاصة ــ يتقاسمها أفراد أسرتي، وليس أصدقائي قط. وشعرت بالرغبة في دعوة آخرين من خارج المجتمع لمشاركة ما أستطيع عن تراثي الفلسطيني وديني. وقد استضفت إفطاراً لعدد قليل من أصدقائي المقربين من غير المسلمين من الكلية والدراسات العليا على أمل أن يؤدي فتح أبوابنا ودعوتهم للانضمام إلى هذه الممارسة إلى بناء فهم أكثر حميمية لتقاليدنا الدينية والمجتمع الفلسطيني الأوسع، وبالتالي تعزيز كليهما.

لقد قضيت أنا وأمي اليوم كله في الطهي معًا، معكان العشاء بمثابة محور العشاء. وبينما كنت أشعر بالقلق من أن المساء قد يكون محرجًا، وخاصة في ظل ثقل الحرب التي كانت تخيم عليه، كان أصدقائي يتنقلون طوال الليل وكأنهم في المنزل، ويتواصلون مع والديّ ويطلبون المزيد، بل وحتى المزيد من الطعام. كان المساء ناجحًا، لكنه تركني أيضًا أشعر بالصراع. فبالإضافة إلى الشعور بالإنجاز والهدف الذي خلقه العشاء بالنسبة لي، كان هناك شعور بالذنب المستمر لأنني تمكنت من طهي هذه الوليمة والالتقاء بأصدقائي لمجرد أنني أعيش هنا وليس في غزة.

إن استخدام الطعام بهذه الطريقة، والانطلاق بنشاط لصنع ما لم يعد أهل غزة قادرين على الاستمتاع به، أمر غريب. لقد عانيت لفترة طويلة من إدراكي أنني على الرغم من كوني فلسطينية الأصل، إلا أنني نشأت في أميركا، وبالتالي فقد نجوت من معاناة الفلسطينيين في الخارج. ولكن مهما ساءت الأمور، فإنهم لا يستسلمون أبداً. وإذا كان بوسعهم أن يظلوا ملتزمين بشهر الصيام المقدس حتى في مواجهة المجاعة ــ وهذا ما فعله كثيرون منهم ــ فلا يوجد سبب يمنعني من القيام بنفس الشيء بكل ما أملك.

إن قراري بالصيام هذا العام لا يستحق أي نوع من الثناء؛ فالصيام هو أحد أركان الإسلام الخمسة التي يلتزم بها أغلب المسلمين كل عام دون أن يفكروا فيها مرتين. ولكن عندما أتأمل هذا الشهر الكريم، فإن صيامي كان بمثابة تذكير رمزي بالمعاناة التي لا هوادة فيها التي يعيشها الفلسطينيون يوماً بعد يوم. وفي الوقت نفسه، كان كسر صيامي كل ليلة بأطباق وفيرة من الطعام بمثابة تذكير مؤلم بأن اختياري للاحتفال بشهر رمضان هذا العام لن ينقذ روحاً واحدة في غزة. إن الصيام، والطهي مع والدتي، والجلوس مع العائلة والأصدقاء لتناول أطعمة ثقافتي ليست قراراً، بل هي طريقة صغيرة ولكنها صادقة لتكريم الشعب الفلسطيني ــ عشرات الآلاف الذين قتلوا والذين بقوا ــ وإبقائهم في قلبي وروحي، ملتزمين وملتزمين. ومع هذا، فأنا متمسك بالأمل في أن يروا الحرية ذات يوم قريب.